
بقلم منيرة الشايب صحفية و كاتبة تونسية مقيمة في لندن
“صوت هند رجب” هو فيلم وثائقي درامي مؤثر للمخرجة التونسية كوثر بن هنية. فيلم يفطر قلب المشاهد, جعل كل من كان في قاعة السينما رجالا ونساءا يجهشون بالبكاء!
يعتمد الفيلم على أحداث حقيقية، ويحتوي على مشاهد صعبة جدا على المشاهد.اذ تواصل المخرجة التونسية تمويه الحدود بين الدراما والوثائقي في أحدث أفلامها. هنا، النتائج مؤثرة بشكل كبير وهذا ما يجعل منه فيلما تجب مشاهدته.
الفيلم يُروى من منظور متطوعي الهلال الأحمر الفلسطيني. ففي شهر يناير من عام 2024, تلقى متطوعو الهلال الأحمر مكالمة طارئة. عمر الذي يؤدي دوره الممثل الفلسطيني معتز مليحس، هو الذي تلقى الاتصال الأول من طفلة تبلغ من العمر ست سنوات كانت محاصرة في سيارة تحت النيران في غزة، تتوسل انقاذها.
اسم الطفلة هند رجب. يُسمع صوت هند المذعور في تسجيل ضعيف، وهي تبكي وتقول: “أرجو أن تأتوا إليّ، أرجو أن تأتوا. أنا خائفة”، بينما تُسمع أصوات إطلاق النار في الخلفية. أثناء محاولته إبقائها على الخط، يفعل هو وزملاؤه كل ما في وسعهم لإيصال سيارة إسعاف إليها..
يستمر الاتصال بينما تكشف هند أن دبابة الجيش قريبة قد تطلق النار في أي لحظة. تقول هند إن عمتها نائمة، وعمر يعرف ما تعنيه، وأن الآخرين ماتوا جميعا، ويفهم عمر انها عالقة مع جثثهم داخل السيارة. بينما تتولى زميلة عمر رنا (الممثلة رنا كيلاني) المكالمة وتحاول تهدئتها. تسألها عن مدرستها، فتجيب هند أنها في ‘صف الفراشة’, بينما يحاول بقية الزملاء معرفة موقعها بالضبط.
يقوم المتطوعون بالتنسيق مع مشرفهم مهدي (عامر حليحل) بالترتيب لإرسال سيارة إسعاف في أسرع وقت ممكن. لكن الأمر ليس سهلاً كما يبدو، حيث يجب على مهدي إجراء مكالمات ومشاركة المعلومات عبر الجيش الاسرائيلي للحصول على الإشارة الخضراء. يمزج الفيلم، الذي تم تصويره في تونس وفي موقع واحد، بين التسجيلات الصوتية الواقعية من جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني وإعادة التمثيل، ويبذل جهداً متعمداً لإبقاء العنف خارج الشاشة. بدلاً من ذلك، يتم تسليط الضوء على ما هو غير مرئي حيث تركز بن هنية على الانتظار، التوقع, الخوف، والصمت الذي لا يطاق عندما لا تأتي المساعدة. ومن الواضح أن بن هنية تريد أن تُروى هذه القصة، وأن تصل صرخات هند رجب المؤلمة إلى اكبر عدد ممكن من الناس.
التأثير مصمم ومخرج بشكل صادم. اذ يسود وهم مرعب لدى متطوعي الهلال الاحمر وكذلك المشاهد، بأن الامكانية لا تزال موجودة لانقاذ هند رجب، رغم أننا نعلم أن ذلك مستحيل حقًا. حتمية تقشعر لها الأبدان. ومع ذلك، فإن هذا التصور المروع، المدمج ضمن هيكل هذا السرد لهذه القصة الحزينة للغاية، يوسع حدود شكل الدراما وما يمكن أن تحققه.
يصل المسعفون في نهاية الامر, لكن بعد أيام يعُثر على سيارتهم مدمرة بالقرب من سيارة هند, وقد قتل السائق والمسعف.
حصلت كوثر بن هنية على التسجيل الكامل من خلال الهلال الأحمر. وقالت :” سمعت صوت هند رجب تطلب المساعدة. عندئذ، كان صوتها قد انتشر بالفعل عبر الإنترنت. كان طول التسجيل حوالي 70 دقيقة وكان مروعًا. عند الاستماع إليه، عرفت بدون أدنى شك أن عليّ أن أترك كل شيء وأصنع هذا الفيلم.”
جاء قرار بن هنية خلال توقفها في لوس أنجلوس، بينما كانت في أوج حملتها للأوسكار عن فيلم “أربع بنات” او ” بنات الفة”, ثم تغير كل شيء. وقالت”شعرت فورًا بمزيج من العجز والحزن الغامر. كانت ردّة فعل جسدية، وكأن الأرض انزاحت من تحتي. لم أستطع الاستمرار كما كنت مخططة. كان هناك شيء كهربائي في الطاقة المحيطة بهذا المشروع – سريع جداً، وقوي للغاية. في كل سنوات عملي كمخرجة، لم أتخيل أبداً أنه من الممكن أن أكمل عملا من البداية إلى النهاية في 12 شهراً فقط.”
وقالت بن هنية بعد العرض: “كان يجب صنع فيلم مثل هذا لأن الأخبار كثيرًا ما تذكرنا بوقائع كثيرا ما تنسى, لكنها تُظهر لنا عالَمًا حُرِم القدرة على الكلام. صوت هذه الطفلة البالغة من العمر خمس سنوات، هو في النهاية صوت غزة وهي تستغيث.”
أفادت عدة وسائل إعلامية بأن الذين حضروا العرض الأول تأثروا بشكل واضح بالفيلم، وسمع الهتاف “حرروا فلسطين” خلال التصفيق وسط عرض للأعلام الفلسطينية. يلعب في الفيلم الدور الفلسطيني كلارا خوري، وسجا كيلاني، ومعتز ملحيس، وعامر حليحل كموظفين في جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني الذين يتابعون مكالمة رجب وينسقون عملية الإنقاذ.
وسردت كوثر بن هنية، تعليق والدة هند , وسام حمادة , في منشور عبر حسابها الشخصي بمنصة «فيسبوك»، قالت فيه: «أريد أن أشكركم، ولكل فريق العمل، ولكل من دعم الفيلم ودعمني ودعم هذه القصة، تمنيت حقًا أن أقف معك اليوم…”
وتابعت: «أتمنى أيضا ألا ينسى العالم أن هند ليست القصة الوحيدة في غزة – هناك الكثير من الأطفال لا يزالون ينتظرون الأمل، أتمنى أن يساعد هذا الفيلم في إيقاف الحرب، كما أدعو إلى وضع حد لهذا الوضع الذي لا يطاق كفاية كفاية.” وأضافت “لقد تركنا العالم بأسره نموت، ونجوع، ونعيش في خوف ونتعرض للتهجير القسري دون أن يفعل أحد شيئًا.” وقالت الممثلة الفلسطينية رنا كيلاني، التي من شدة البكاء اثناء حديثها الى هند اغمي عليها, قالت في المؤتمر الصحفي للفيلم : “صوت هند رجب لا يحتاج إلى دفاعنا. هذا الفيلم ليس رأيًا أو خيالًا. إنه متجذر في الحقيقة. قصة هند تحمل وزن شعب كامل، وليست ملكًا لها وحدها. صوتها واحد من بين 19,000 طفل قتلوا في غزة خلال العامين الماضيين فقط. “إنه صوت كل أم وأب وطبيب ومعلم وفنان وصحفي ومتطوع ومسعف، كل منهم له الحق في الحياة والحلم والوجود بكرامة، ومع ذلك تمت سرقة كل ذلك أمام أعين العالم. وهذه ليست سوى الأصوات التي نعرفها. وراء كل رقم هناك قصة لم تُحْك بعد. السؤال الحقيقي هو، كيف سمحنا لطفل أن يتحدث ويتوسل من أجل الحياة؟ لا يمكن لأحد أن يعيش في سلام بينما يُجبر طفل واحد على الصراع من أجل البقاء. دعوا صدى صوت هند رجب يتردد حول العالم.”
خلاصة القول، ان “صوت هند رجب” هو فيلم قوي جاء ليلعب دورًا أرشيفيًا في لحظة مروعة ليست من الماضي، حيث أن الدمار وتأثيره مازال واقعًا ملموسًا. فيلم يتجاوز حاجز السينما, ومن خلال دمج الصوت الطفولي البرئ مع التمثيل الخام للعجز البيروقراطي للمنقذين، تقدم كوثر بن هنية فيلما هو عبارة عن مرآة مؤلمة تعكس لامبالاة العالم تجاه المآسي في غزة. إنه تذكير بالثمن الذي تدفعه الإنسانية جمعاء لصمتها امام اي ماساة في اي مكان من العالم.
عرض فيلم “صوت هند رجب” لأول مرة في الدورة الحادية والثلاثين لمهرجان كالكوتا السينمائي الدولي. كما شارك لأول مرة في الدورة 82 لمهرجان البندقية السينمائي الدولي في سبتمبر 2025
وفاز بست جوائز موازية مرموقة من أصل ثماني جوائز يمنحها مهرجان البندقية السينمائي الدولي في دورته الثانية والثمانين، وتوزعت الجوائز التي نالها العمل على ” الشبل الذهبي” و”جائزة الصليب الأحمر الإيطالي” و”جائزة أركا للسينما الشبابية” و”تنويه سينما من أجل اليونيسف” وكذلك “جائزة إنريكو فولتشينوني (اليونسكو) وسط تصفيق حار من الجمهور. كما أن “صوت هند رجب” مرشح رسميا لأفضل فيلم دولي طويل في جوائز الأوسكار المقبلة.
وقد أشاد النقاد بالفيلم لعمقه والطريقة التي يتعامل بها مع المواضيع الحساسة مع تجنب الإثارة المبالغ فيها وتسليط الضوء على الوضعية كما هي.
كما حصل الفيلم على دعم من شخصيات بارزة في هوليود، بما في ذلك الممثلان براد بيت وجواكين فينيكس، الذان كانا المنتجين التنفيذيين له. والمخرجة التونسية سبق أن رُشحت لجائزة الأوسكار في فئة أفضل فيلم دولي عن فيلم “الرجل الذي باع جلده ” (2020)، وفي فئة أفضل فيلم وثائقي عن فيلم “أربع بنات” او “بنات الفة” لعام 2024.
وأكدت كوثر بن هنية أنها قررت إهداء جائرة فيلم «صوت هند» إلى الهلال الأحمر الفلسطيني، ولكل من قدم أي شيء لإنقاذ الأرواح في غزة لأنهم أبطال حقيقيون, على حد قولها.
واختتمت مخرجة الفيلم حديثها متمنية بأن يصل صدى فيلم «صوت هند» إلى العالم حتى تصبح المسألة حقيقية وتحقق العدالة، مضيفة أن العمل يسرد معاناة مأساوية لشعب بأكمله يعاني من الإبادة الجماعية.
وفي النهاية, هناك من يتكلمون وهناك من يفعلون, وكوثر بن هنية هي ممن يفعلون ويحدثون الفرق!
وقبل فيلم “صوت هند رجب” بايام وفي اطار مهرجان لندن للفيلم الفلسطيني, شاهدت “فلسطين“36
وهو عبارة عن ملحمة شاملة تنظر في فترة معقدة من تاريخ فلسطين, وهي فترة الانتداب البريطاني, أحد المصادر الرئيسية للصراع في الشرق الأوسط وتداعياته على المنطقة.
تضع المخرجة الفلسطينية ان ماري جاسر دراستها لفترة التغيرات التي أحدثها تدفق المهاجرين اليهود الأوروبيين. لكن بينما تعتبر تأثيرات السكان الجدد موضوعًا متكرراً، تختار جاسر عدم إدراج شخصيات يهودية في سردها؛ وبدلاً من ذلك، تركز على القوة البريطانية الحاكمة كما واجهها الفلسطينيون.عام 1936، هو التاريخ الذي اندلعت فيه الثورة الفلسطينية لتتحول حالة الرضا عن الحكم البريطاني الى احتجاج على الظلم المستمر، وسرقة الأراضي، وسياسات التامر مع الحركة الصهيونية. ويتناول الفيلم قصة الثورة والرد العنيف من السلطات البريطانية.


ومن المصادفات أن فيلم جاسر، الذي يركز على لحظة حاسمة في التاريخ الفلسطيني، وصل خلال لحظة مؤلمة أخرى لتشكيل مسار البلاد. فأن ماري جاسر لم تتوقع عرض ‘فلسطين 36’ خلال الإبادة الجماعية في غزة, اذ كانت المخرجة الفلسطينية تعمل على دراما تاريخية عن المنطقة منذ قبل الجائحة. ففي خريف 2023، كان فريقها على بعد أسبوع من بدء التصوير الرئيسي في الضفة الغربية عندما وقعت احداث السابع من أكتوبر، مما أدى إلى توقف الإنتاج وجعل الحقبة التاريخية تبدو ذات صلة مروعة بالوضع الحالي.
تدور حبكة “فلسطين 36” حول عدة شخصيات تتقاطع حياتها: يوسف، الشاب القادم من قرية فلسطينية، ينتقل للعمل في القدس ويجد نفسه وسط اضطرابات سياسية واجتماعية متسارعة. في المقابل، شخصيات مثل الصحفية خلود والعمال في الميناء يواجهون ضغطا متزايدا من المستعمرين البريطانيين والمستوطنين اليهود المتوافدين من اروبا. ويتتبع الفيلم شخصية يوسف وهو يتنقل بين منزله الريفي ومدينة القدس المتأججة، توقًا إلى مستقبل يتجاوز الاضطرابات المتزايدة في فلسطين الخاضعة للانتداب، حيث كانت عدة قرى تثور ضد الحكم البريطاني. لكن التاريخ لا يتوقف، فمع تزايد أعداد المهاجرين اليهود الفارين من أوروبا التي كانت تشهد تصاعد الفاشية، والمطالبات الفلسطينية بالاستقلال، تتجه جميع الأطراف نحو صدام حتمي في لحظة حاسمة للإمبراطورية البريطانية ومستقبل المنطقة بأسرها.
ولا يتوقف الفيلم عند الأحداث التاريخية فقط، بل يسعى إلى ربط الماضي بالحاضر، مبيّنا كيف شكلت تلك الفترة البذور الأولى للصراع المستمر. فرغم تناوله أحداثًا مضت منذ نحو قرن؛ يرسم الفيلم صورة حية للزمن الحالي؛ إذ يناضل أبطاله الفلسطينيون من أجل حقوقهم في مواجهة المستوطنين اليهود والقوة الاستعمارية البريطانية, كما ربطت المخرجة بين تلك الحقبة وما يجري في غزة اليوم، معتبرة أن ما حدث عام 1936 يضع على عاتق بريطانيا مسؤولية تاريخية أخلاقية لا يمكن تجاهلها.
آن ماري جاسر كتبت السيناريو أيضا، ويضمّ الفيلم مجموعة من أبرز الممثلين العرب والعالميين، من بينهم هيام عباس، وياسمين المصري، وظافر العابدين, وصالح بكري، إلى جانب النجمين العالميين جيريمي آيرونز ووليام كانينغهام.
من جانبه، أعرب الفنان ظافر العابدين عن سعادته بالمشاركة في هذا العمل، واعتبر تمثيل فيلم “فلسطين 36” في مهرجانات دولية وعلى رأسها الأوسكار أمرا مهما، لكنه شدد في الوقت نفسه على أن “الأهم من الجوائز والمهرجانات هو الفيلم ذاته، موضحًا أن “المهرجانات زائلة، بينما تبقى الأفلام حيّة مع الجمهور لسنوات طويلة”.
وأشار العابدين إلى أن الفيلم يحمل قصصًا إنسانية ودرامية مؤثرة، لكنه أيضًا يسعى إلى تثقيف المشاهد، مؤكدًا أن الكثيرين لا يعرفون ما جرى في فلسطين وقت الثورة العربية الكُبرى، بين عامي 1936 و1939 ضد الانتداب البريطاني والمهاجرين اليهود، وهي الحقبة التي يغوص فيها الفيلم، مُشددًا على أن القضية الفلسطينية لم تبدأ اليوم، بل تمتد لعقود طويلة، مما يجعل من الفيلم عملاً يؤرخ لمرحلة مفصلية من تاريخ فلسطين، وفق تعبيره.
ويحظى الفيلم بتوقعات عالية من قبل نقّاد وصُنّاع السينما العرب، الذين رجّحوا وصوله إلى القائمة النهائية لجوائز الأوسكار، بل وربما نيله إحدى الجوائز، خاصة في ظل ما تشهده الساحة العالمية من اهتمام بالقضايا الإنسانية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ومأساة غزة الراهنة.
