
بقلم د. نبيل فاضل
في زمن تحوّل فيه المنبر الإعلامي من صوتٍ للناس إلى أداة تلميع وتضليل، تطلّ علينا عفاف الخنيسي كاستثناء نادر، كصوتٍ عذبٍ يقف شامخًا وسط صخب الزيف والتكاذب المهني. هي ليست مجرّد مذيعة ولا مقدّمة برامج كبقيّة الوجوه التي تغزو الشاشات يوميًا، بل هي حالة فكرية، وموقف، ومبدأ، ومثال حيّ لما يجب أن يكون عليه الإعلام حين يُمارس بأخلاقياته لا بأهواء الممولين.
■ عفاف الخنيسي: مهنية تُدرَّس
منذ بداياتها، لم تسلك عفاف طريق السهولة، بل اختارت المسلك الأصعب: البحث، التحليل، ومحاورة العقل لا العاطفة. تتحدث بثقة العالم، وتطرح السؤال كما لو كانت تُجبر الضيف على التورّط في صدقه. لا تركع للعناوين المثيرة ولا تنجرف خلف الإثارة الزائفة التي تُغري بها البرامج “الترندات”، بل تصنع هي الحدث بما تطرحه، وبما ترفضه أيضًا.
■ جرأة مبنية على علم
عفاف لا ترفع صوتها لتقنع، بل تسند موقفها بالحجة والدليل، تقرأ المشهد السياسي والاقتصادي قراءة الناقد الخبير لا المعلّق السطحي. وهنا يكمن الفرق بين إعلامي يلهث وراء الإثارة وإعلامية تُنتج الفهم وتحترم عقل المتلقّي. إنها لا تُجامل السلطة، ولا تعاديها لأجل المعارضة، بل تمارس دورها الطبيعي: مساءلة المسؤول، ومناصرة المواطن، وكشف التناقضات التي يحاول البعض طمسها.
■ أيقونة في زمن التفاهة
حين تحوّلت بعض المنابر الإعلامية إلى مساحات دعائية، تقف عفاف الخنيسي كشوكة في حلق هذا العبث. لا تتلوّن، لا تساوم، ولا تبيع مواقفها تحت غطاء “التوازن الإعلامي”. هي مدرسة في الإقناع، وصوت منسجم بين المبدأ والممارسة. نبرة صوتها ليست مجرّد أداء، بل رسالة تُبنى على تحليل علمي، وفهم دقيق للسياقات، ومقدرة على تحويل الحلقة التلفزيونية إلى درسٍ في المواطنة والوعي.
■ الرسالة الأعمق: من أجل صحافة تحترم المواطن
إن عفاف الخنيسي لا تُمثل نفسها فحسب، بل تُمثل أملًا في أن الإعلام يمكن أن يستعيد وظيفته الأصلية: أن يكون سلطة رابعة حقيقية، تحرس الديمقراطية، وتُراقب الأداء، وتُدافع عن الحريات. في زمن تتراجع فيه القيم ويُختزل فيه الإعلام في “فرجة”، تأتي هي كاستثناء يعيد التوازن ويمنح المشاهد التونسي فرصة لأن يُحترم.
في الختام، عفاف الخنيسي ليست فقط إعلامية ناجحة، بل ظاهرة وطنية تستحق أن نحتفي بها ونصونها من هجمات الرداءة. هي أيقونة في زمن اختلطت فيه الأدوار وسقطت فيه الأقنعة، وأملٌ في أن الكلمة الصادقة ما زالت تجد مكانها، ولو بين الركام.