
جيلاني فيتوري /وسام القرقني
منذ مغادرته تونس في أوائل الثمانينات، كانت وجهة محمد البوعلي واضحة: البحث عن فرصة أفضل في إيطاليا، دون أن يقطع صلته بجذوره. وصل شابًا حالمًا محمّلًا بطموحات كبيرة، وبدأ مسيرته في المهن البسيطة، من العمل في المصانع إلى المساعدة في المطاعم، غير أن روح التحدي لم تفارقه يومًا.
يُروى أن محمد لم يكن يبحث فقط عن قوت يومه، بل كان دائمًا يرنو إلى بناء شيء له معنى… شيء يبقى. وبعد سنوات من الكدّ والالتزام، استطاع تأسيس شركته الأولى في مجال النقل، مشروع صغير نما تدريجيًا ليصبح واحدًا من الأسماء المعروفة في مجاله على مستوى إقليمي.

لم يكتفِ بذلك، بل أطلق لاحقًا شركة ثانية تعنى بتقديم الخدمات للمهاجرين، وخاصة أبناء وطنه من التونسيين. تتنوع هذه الخدمات بين المرافقة الإدارية، والاستشارات القانونية، والمساعدات الاجتماعية، وصولًا إلى الترجمة وإيجاد فرص العمل.
ويُعرف عن محمد أنه لا يتردد في مدّ يد العون لأبناء جاليته، خاصة الطلبة التونسيين الذين يصلون إلى إيطاليا للدراسة. فور قدومهم، يجدون فيه مرشدًا حقيقيًا، يساعدهم في العثور على سكن مناسب، ويشرح لهم القوانين والإجراءات التي قد تبدو معقدة في البداية، خصوصًا ما يتعلق بالمنح الدراسية، التأمين، والإقامة القانونية.
يرى محمد أن مساعدة الطلبة ليست فقط خدمة عابرة، بل استثمار في مستقبل الجالية التونسية، ووسيلة لخلق جيل جديد واعٍ ومندمج دون أن يذوب في الغربة.
كما لم يغفل محمد عن دعم الإطارات التونسية القادمة للعمل، وخاصة الإطارات شبه الطبية من ممرضين ومساعدين صحيين، الذين يواجهون في بداية مشوارهم المهني في إيطاليا عددًا من الإجراءات المعقدة.
عمل على تبسيط المسارات الإدارية لهم، وتوفير المعلومات الدقيقة حول معادلة الشهادات، والالتحاق بالمؤسسات الصحية، والمساعدة في الترجمة والتوجيه القانوني.
بالنسبة له، هؤلاء لا يحملون فقط خبراتهم، بل يمثلون صورة مشرقة لتونس في الخارج، ولذلك يستحقون كل دعم ممكن في رحلتهم المهنية.

ويُذكر عن محمد أنه لم يتعامل مع أبناء جاليته من منطلق العمل فقط، بل من منطلق إنساني بالدرجة الأولى. كثيرون من التونسيين في إيطاليا يعرفونه لا كشخصية أعمال، بل كأخ كبير يلجأون إليه وقت الحاجة. يروي بعضهم كيف تدخل لمساعدة عائلات تونسية عند الأزمات، سواء ماديًا أو معنويًا، دون مقابل أو انتظار شكر.
يقول أحد أصدقائه المقربين: “محمد لم ينس يومًا من أين أتى، وكل نجاح حققه اعتبره وسيلة لفتح الباب لغيره.”
علاقته بالجالية التونسية كانت دومًا قوية، قائمة على الاحترام والدعم المتبادل. يحرص على تنظيم لقاءات دورية تجمع التونسيين، ويشارك في الفعاليات الثقافية والمناسبات الوطنية، مؤمنًا بأن النجاح لا يكتمل إلا إذا حمل معه حس الانتماء والمسؤولية.
محمد البوعلي، وإن لم تعد ملامحه كما كانت قبل أربعة عقود، إلا أن قلبه ظل تونسيًا نابضًا، يؤمن بأن الغربة ليست نهاية، بل بداية جديدة، شرط أن تبقى الجذور حاضرة في كل خطوة.