بقلم: يسري تليلي – مجلة TUNISIAMAG
في زمن قلّت فيه الأصوات الصادقة وتراجع فيه الحضور الفني المتجذّر، يسطع نجم رؤوف ماهر، ذلك الفنان الذي لا تغريه الأضواء الزائفة، بل يشق طريقه بثبات، محمولًا على أجنحة الإبداع والإصرار، من أعماق الجنوب التونسي إلى أهم المسارح العالمية.

صيف 2024 لم يكن مجرد موسم حفلات لرؤوف ماهر، بل كان تتويجًا لمسيرة فنية متوهّجة، حيث انطلق في جولة فنية كبرى تحت عنوان “من الجنوب إلى العالم”. هذا العنوان لم يكن شعارًا فقط، بل كان خلاصة فلسفة فنية عميقة لرؤوف، يسعى من خلالها إلى إيصال صوت الجنوب وروحه وتراثه إلى أبعد نقطة في هذا العالم.
من مهرجان قرطاج الدولي إلى مهرجان دوز، صال وجال رؤوف بين المسارح التونسية، مقدّمًا عروضًا تزاوج بين الإتقان الموسيقي والإحساس العميق. ومع كل نغمة وكل كلمة، كان يزرع في الجمهور شيئًا من الحنين، وشيئًا من الحلم، وجرعة كبيرة من الفخر بالهوية التونسية.
أما في فرنسا، فكان الموعد مختلفًا: باريس، مارسيليا، ليون… مدن فتحت أبوابها أمام فنان استطاع أن يمزج بين الشجن الشرقي والنبض المعاصر، ليتحوّل إلى سفير حقيقي للثقافة التونسية في قلوب التونسيين بالخارج وكل من عشق الفن العربي الأصيل. حضور رؤوف على المسارح الفرنسية لم يكن مجرد استعراض صوت، بل كان فعل تواصل حضاري وثقافي، حيث رقصت الجالية التونسية على أنغام “ريحانة” و”نسمات الجنوب”، ورددت كلمات أغانيه بكل فخر وحنين.
في كل عرض، لم يكن رؤوف مجرد مؤدٍّ لأغانيه، بل حكّاء محترف يشارك جمهوره لحظات من الذاكرة، وقطعًا من القلب. تحدّث عن طفولته في مدنين، عن الحب الأول للموسيقى، وعن تلك الحفلات الصغيرة التي كانت نواتات حلم كبير. واستمدّ من جذوره زخمًا جديدًا، يُثبت به أن الفن الحقيقي لا يموت، بل يتطوّر ويتجدد دون أن ينسى منبعه.
رؤوف ماهر ليس فقط نجمًا على الخشبة، بل هو حالة فنية وإنسانية نادرة، تشهد لها جماهيره، ويؤكدها كل من تابع صعوده من البدايات حتى القمم. في زمن العابر والسريع، يصرّ هو على أن يبني مشروعًا فنيًا يحمل هوية وهواء بلاده، وأن يترك أثرًا لا يُمحى في كل نفس أصغت إليه.
ختامًا، رؤوف ماهر لا يغني فقط… بل يُغني ذاكرتنا الجمعية، ويُحيي فينا عشقًا للوطن والثقافة، ويُذكّرنا أن الجنوب ليس فقط جغرافيا، بل روحًا يمكنها أن تعانق العالم.